ومما
يستدل به من يقول بجواز الخطأ عليه صلى الله عليه وسلم دون أن يُقِرَّ
عليه قصة أسري بدر وهي كما في المسند عن أنس رضي الله عنه أنه قال: استشار
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ في الأسري يوم بدر فقال (إن الله
تعالى قد أمكنكم منهم) فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله
اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال (يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم
إخوانكم بالأمس) فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي
صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه
فقال: يا رسول الله نري أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء قال فذهب عن وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغَمِّ فعفا عنهم وَقَبَلَ
منهم الفداء قال وأنزل الله {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ومن تأمل ما جاء في روايات
هذه القصة يظهر له جليًّا أنه صلى الله عليه وسلم كان مُصيباً فيما فعله
وذلك من وجوه متعددة:
الوجه الأول: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عمل
بذلك بمقتضي المشاورة التي أمره الله بها في قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}
الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم جنح إلى رأي مَنْ
قال بالفداء وَهَوِيَهُ - أي أحبَّه - لما فيه من الرحمة والعطف واللين
بمقتضي المقام الذي أقامه فيه وهو قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}
الوجه الثالث: أن فعله صلى الله عليه وسلم كان
موافقاً لما سبق في الكتاب الأول الذي قضي الله فيه حلّ الغنائم له صلى
الله عليه وسلم خاصةً ولم تحل لأحد من قبله كما قال ابن عباس في قوله تعالي
{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ} يعني في أم الكتاب الأول أنَّ
المغانم والأسارى حلالٌ لكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ}
الوجه الرابع: وكما أن قبوله صلى الله عليه وسلم
الفداء وافق قضاءَ الله السابق في الكتاب الأول فإنه وافق أيضاً الشرعَ
اللاحق النازل في الكتاب الحكيم وهو قوله تعالى {فَكُلُواْ مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ} فكيف يقال في أمر وافق الكتاب الأول ووافق الشرع النازل بعد كيف
يقال أنه خطأ
الوجه الخامس: أن نزول التشريع بإحلال الغنائم وهو
قوله تعالي {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} وهو إقرارٌ
لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصويبٌ لما رآه إذ لو كان ما فعله
خطأ كيف يقرُّه الله عليه ويجعله شرعاً باقياً؟ حتي على قول مَنْ جوَّز
الخطأ عليه صلى الله عليه وسلم دون أن يقرَّه الله عليه لا يقال أنه صلى
الله عليه وسلم أخطأ في قضية أسري بدر لأن الله تعالى أمَره على ذلك فمن
أين يأتي الخطأ؟ قال الحافظ أبن كثير في تفسيره: وقد استمر الحكم في الأسري
عند جمهور العلماء أن الإمام مُخَيَّرٌ فيهم إن شاء قتل كما فعل ببني
قريظة وإن شاء فادي بمال كما فعل بأسري بدر أو فادي بمن أُسِرَ من المسلمين
كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين
كانتا في سبي سلمة بن الأكوع حيث ردَّهما وأخذ في مقابلهما من المسلمين
الذين كانوا عند المشركين وإن شاء استرقَّ مَنْ أُسِرَ هذا مذهب الإمام
الشافعي وطائفة من العلماء وفي المسألة خلاف بين الأئمة مقرر في موضعه من
كتب الفقه، أ. هـ ابن كثير
الوجه السادس: لو كان موقفه صلى الله عليه وسلم مع
أسري بدر خطأ لأمره الله أن يرد الفداء وأن يستغفر الله من الخطأ الذي وقع
فيه مع أنه سبحانه أقرَّه على ذلك وشرع له ذلك فقال {فَكُلُواْ مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} فلو كان خطأً لما أقرَّه الله عليه ولما شرع
له ذلك
الوجه السابع: كيف يحكم بأنه صلى الله عليه
وسلم أخطأ في أسري بدر مع أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يخير أصحابه في
ذلك ثم عمل بمقتضي ذلك؟ فقد روي الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد
صحيح عن علىٍّ قال: جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم بدر فقال: خَيِّرْ أصحابك في الأسري إن شاءوا القتل وإن شاءوا
الفداء على أن يقتل منهم – أي الصحابة – في العام المقبل مثلهم فقالوا
نختار الفداء ويقتل منا أي يُقتل منهم سبعون رغبة في الشهادة في سبيل الله
وعن ابن سعد من مرسل قتادة قالوا: بل نفاديهم فنقوي بهم عليهم ويدخل العام
القابل منا الجنة سبعون ففادوهم قال الحافظ القسطلاني: وهذا دليل على أنهم
لم يفعلوا إلا ما أُذن لهم فيه
أما قوله {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ
يُرِيدُ الآخِرَةَ} ليس فيها معاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم أصلاً وإنما
فيها العتاب لمن أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بالفداء - بغية عرض
الدنيا وهو المال المُفدَي به - حين استشار عامة الناس قبل أن يستشير
خاصتهم أبا بكر وعمر وعليًّا رضي الله عنهم كما تقدم فأراد بقوله سبحانه
وتعالي: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أولئك النفر الذين أرادوا المال
أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقصد بقوله الفداء عرض الدنيا -
وحاشاه من ذلك - فإن الدنيا كلَّها ما لها قيمة عنده وقد قال صلى الله
عليه وسلم: فيا رواه عبد الله في سنن الترمذي (مَالِي وَلِلدُّنْيَا ما
أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ
رَاحَ وَتَرَكَهَا) قد عُرضت عليه جبال تهامة أن تكون ذهباً فَأَبَي فأين
هو مِنْ عرض الدنيا؟
أما قوله تعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} فإن هذا إعلان منه سبحانه وتعالي بنعمته
ومنَّته على هذه الأمة بفضل نبيِّها صلى الله عليه وسلم وإعلام بأنه سبق
منه القضاء في الكتاب الأسبق بحلِّ الغنائم لهذه الأمة دون غيرها فضلاً منه
ونعمة بفضل نبيِّها وكرامته على الله تعالي ومن ثمَّ كان صلى الله عليه
وسلم يُشيد بهذه النعمة في جملة من المناقب التي خصَّه الله تعالى بها
فيقول فيما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله: (أُعطِيتُ خَمساً لم
يُعطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأنبِياءِ قبلي – ومنها- : وَأُحِلَّتْ ليَ
الغَنائمُ وكان النبيُّ يُبعَثُ إِلى قَوْمهِ خاصَّةً وَبُعِثتُ إِلى
الناسِ كافَّةً وَأُعْطِيتُ الشَّفاعةَ».
منقول من كتاب [الكمالات المحمدية]