السيرة النبوية وعلاقتها بالمنهج الدعوي
يعتبر مجال الدعوة إلى الله من أهم المجالات التي يجب على كل مسلم أن يعتني به، وينفق فيه أوقاته وعمره، كما أن الدعوة إلى الله تعالى وفق المنهج الصحيح من أشرف مقامات العبد، وهو مقام الأنبياء والرسل، قال الله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}، وقال عز وجل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}، وقال تعالى: {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعضة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، انطلاقا من هذه النصوص ندرك أهمية الدعوة إلى الله وفضلها، وأنها مقام كريم، ومنصب شريف، حري بكل مسلم غيور السعي إلى تحقيقه، والأخذ بحظه منه.
والدعوة إلى الله لا بد لها من قيود وضوابط ومرجعية، وتعد السيرة النبوية من أهم المرجعيات التي تستقى منها وسائل الدعوة إلى الله تعالى وضوابطها، فقد اشتملت على كل حيثيات الدعوة حيث تعتبر منهجا دعويا متكاملا واضحا في مبدئه ومنهجه ومنتهاه، وهذه الحقيقة للأسف يهملها الكثير ممن ألف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث يغلب عليهم طابع القصة والحكايات والأخبار ويفوتهم الوقوف عند المحطات المهمة جدا في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لأي دعوة كيف كان شأنها أن تكون ربانية وعليها نور النبوة والوحي إلا إذا وافقت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وسارت على سيرته، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}، فالدعاة على بصيرة هم تبع لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم متبعين لها، ومن حاد عن هذا المنهج لا شك أنه يحيد عن دعوة النبوة، ويخرج عن البصيرة، وحتى يظهر هذا الأمر جليا فالسيرة يمكن أن نبرز علاقتها بالدعوة على الشكل التالي:
أ_ مرحلة قبل البعثة:
هذه المرحلة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيها عرض مفصل لأنواع الفساد العقدي الذي كان يعيشه العرب وغيرهم من الأمم، فالجاهلية قد عمت الأرض كلها إلا بقايا من أهل الكتاب، ويكفي هذا الشمول في إعطاء فكر عن التنوع في عقائد الناس، فتباعد الأقطار، واختلاف الأجناس، وإغواء شياطين الإنس والجن، جعل الانحراف العقدي يبلغ أوجه، هذا ما انعكس على أعمال الناس ومعاملتهم، فظهور أشكال الانحراف جعلت هذه المجتمعات تعيش معيشة هي للحيوانات أقرب منها للبشر، بل حتى الحيوان ينزه عن بعضها.
هذا العرض فيه تفصيل لمكامن المرض وأعراضه وأشكاله التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم للاستئصاله والقضاء عليه، فهذا الفصل يمكن أن نعتبره تشخيصا للأمراض التي جاء الوحي لعلاجها، أو يمكن أن يسمى: "دواعي الدعوة"، فحيث ما وجد شكل من هذه الأشكال، إلا واحتاج الناس فيه إلى دعوة النبوة.
وللأسف نجد أن الكثير ممن ألفوا في السيرة قد انساقوا في هذه المرحلة مع الحكايات والأخبار والقصص عن العرب وتغافلوا عن هذه الحقيقة المهمة، وهي أن القصد من حكاية أحوال العرب وغيرهم ما ذكرنا.
ب_ مرحلة ما بعد البعثة:
_التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم:
اشتمل هذا الفصل على اصطفاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبيان نسبه، وتبشير الأنبياء ببعثته صلى الله عليه وسلم، ثم ولادته ورضاعه ونشأته، وبعض ما وقع له صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، ولا شك أن الأنبياء هم رؤوس الدعاة، ونبينا صلى الله عليه وسلم على رأس الأنبياء فقد اصطفاه الله تعالى للنبوة والدعوة، وهذا الاصطفاء والاجتباء هو فضل من الله تعالى، وقد جعل الله له أسبابا، لقد اختار الله نبيه صلى الله عليه وسلم من خيرة أنساب الناس، وحتى لا يكون مجهولا فقد بشرت به الأنبياء من قبل، وأخبروا أممهم بدعوته وبصفاته، كل هذا يعطينا فائدة دعوية مهمة جدا ينبغي الوقوف عندها، وهي: "صفات الداعية". فالداعي إلى الله لا بد أن يتصف بصفات حميدة، وخلال جميلة، كالصدق والأمانة والصلة والعفاف وغيرها، وهي كلها من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم فقد كان يلقب في الجاهلية قبل الإسلام بالأمين، وكانت مخايل الصدق بادية على وجهه الشريف كما قال عبد الله بن سلام: {فلما تبينته _أي النبي صلى الله عليه وسلم_ تبين لي أن وجهه ليس وجه كذاب}. فكل داع إلى الله يرجوا نجاح دعوته لا بد له من الاتصاف بصفات نبينا صلى الله عليه وسلم، والتحلي بأخلاقه، والسير على نهجه القويم، وكل دعوة تخالف منهج النبوة فطريقها إلى الفشل ولابد.
_بعثته صلى الله عليه وسلم:
اشتملت هذه المرحلة على بيان كيفية بدء الوحي، وعرض كيف كان أول لقاء بين النبي صلى الله عليه وسلم مع ملك الوحي جبريل عليه السلام، وزمان هذه الواقعة ومكانها، ونزول أول آية من القرآن الكريم، وذكر مناسبتها لهذا المقام، وبيان دلائل النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلاقة هذه المرحلة بالدعوة علاقة وطيدة جدا لأن المحرك الأساس للدعوة هو الوحي. فنبينا صلى الله عليه وسلم قبل الوحي كانت له صفات نبيلة، لكن ما كانت عنده دعوة ولا تغيير، وهذا ما ينبئك عن قيمة الوحي في حياة الداعية، قال تعالى: {ووجدك ضالا فهدى}. وقال تعالى: {وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما}، وقال تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب والإيمان}.
ويمكن أن نستفيد من هذه المرحلة أن الدعوة إلى الله لا بد أن تكون قائمة على العلم الشرعي، والدليل على ذلك أن أول آية نزلت في بداية هذه المرحلة هي قوله تعالى: {إقرأ بسم ربك الذي خلق}، فنزول هذه الآية في هذا الظرف بالذات ينبئنا عن أهمية العلم في حياة الداعية إلى الله، والداعي بلا علم يفسد أكثر مما يصلح.
وفي هذه المرحلة نزل قوله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر ربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر}، وقد اشتملت هذه الآية على مبادئ الدعوة كلها، كالإنذار والقيام وصفات الداعية.
ويمكن الإشارة في هذه المرحلة إلى فضل الدعوة ترغيبا فيها وقد جاء في فضلها كثير من الآيات والأحاديث.
هذا وقد قسم العلماء هذه المرحلة إلى قسمين مهمين:
_المرحلة المكية
_المرحلة المدنية
والمرحلة المكية تنقسم كذلك إلى مرحلتين:
_مرحلة الدعوة السرية
_مرحلة الدعوة الجهرية
_أما مرحلة الدعوة السرية فقد اتسمت بالاستخفاء والفرار بالدين من الفتن، وكانت الدعوة فردية أحيانا حيث يدعوا كل واحد على حدة، والدعوة في هذه المرحلة تتسم بالتدرج، والحكمة، إلا أن هناك مواقف لبعض الصحابة جهروا من خلالها بالدعوة كموقف أبي ذر رضي الله عنه، وموقف عمرو بن عبسة السلمي، وكلا الموقفين ثابت في صحيح مسلم،"وبناءا على ذلك فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية في كل عصر أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة الإسلامية_ من حيث التكتم والجهر، أو اللين والقوة_ حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر الذي يعيشون فيه، وهي مرونة حددتها الشريعة الإسلامية، اعتمادا على واقع سيرته صلى الله عليه وسلم..على أن يكون النظر في ذلك إلى مصلحة المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية".
_أما مرحلة الدعوة الجهرية فقد بدأت عند نزول قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس وجهر فيهم بدعوة الحق، فعند ذلك تعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أنواع الأذى، مما اضطر كثيرا منهم إلى الهجرة خارج الجزيرة العربية إلى الحبشة، ومن هنا بدأ التفكير من قبل المشركين في القضاء على الدعوة بشتى الطرق والأساليب كإطلاق الإشاعات: كمجنون، ساحر، كاهن، وعقد المؤتمرات والاجتماعات في سبيل القضاء على الدعوة، ومن ذلك السخرية والاستهزاء، والمساومات، والضرب، وإلقاء سلا الجزور على ظهره الشريف صلى الله عليه وسلم، وهذه كلها من أساليب الصد عن الدعوة، وقد وصل الحال إلى التخطيط لاغتياله صلى الله عليه وسلم.
ومن أساليب الصد عن دعوة الحق تعذيب بعض الصحابة رضي الله عنهم خصوصا المستضعفين منهم كعمار بن ياسر وأبيه وأمه سمية، وبلال، وخباب بن الأرث، وغيرهم من المستضعفين.
ومنها كذلك: المقاطعات الاجتماعية والاقتصادية، ففي البخاري أن المشركين "تقاسموا على الكفر" فسر ذلك بالمقاطعة. وهناك قصص أخرى تشير إلى قضية المقاطعة، كقصة الصحيفة، وقصة حصار الشعب إلا أنها قصص ضعيفة.
ومنها أيضا: التتبع خارج مكة، بل وخارج الجزيرة كتتبع أبي لهب له في الأسواق، وكتتبع المشركين للصحابة في أرض الحبشة.
وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته هذه التحديات بكل صلابة وشجاعة، فلم يلينوا، ولم يضعفوا، فلما اشتد عليهم الأمر، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة.
وهنا ناقش أهل العلم قضية مهمة جدا، وهي مشروعية الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الكفر، وللتوسع في المسألة يرجع إلى كتاب: الرسالة التبوكية للإمام ابن القيم رحمه الله.
وشرح الأربعين للإمام النووي رحمه الله.
وكذلك يرجع إلى: فتاوى السعدي في مسألة ضابط البلاد الكافرة، والبلاد الإسلامية.
ومن أساليب الدعوة كذلك الخروج لدعوة القبائل، ودعوة الناس في الحج، واستغلال التجمعات البشرية، وكان من جاء إلى مكة وأسلم، لا يدعه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بل يأمره بالرجوع إلى بلاده ليدعو أهلها، وهذا يدخل ضمن إرسال الدعاة إلى البلاد الأخرى لدعوة أهلها إلى الإسلام.
وقد اشتملت هذه المرحلة على حادثه مهمة وهي حادثة الإسراء والمعراج، حيث عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة، بعدما أسري به إلى بيت المقدس، وقد افتتن كثير من ضعاف الإيمان بسبب هذه الآية العظيمة حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يصدقوا ذهابه إلى بيت المقدس ورجوعه في ليلة واحدة، ومنهم من ارتد عن دينه، أما المشركون فاتخذوا من هذا الحدث مسخرة، يستهزؤون من خلاله بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأما الصادقون في إيمانهم، ومنهم الصديق الأكبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فثبتوا وصدقوه صلى الله عليه وسلم بل قال أبو بكر رضي الله عنه: "أصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه في خبر السماء". يقصد الوحي. وبسبب هذا الموقف لقب بالصديق رضي الله عنه.
ولا يزال بعض المنحرفين من المسلمين وغير المسلمين مفتونين بسبب هذا الحادث، ولا سيما بعض الكتاب النصارى كلويس عوض وغيره من المنحرفين أرباب الغزو الفكري الماكر، الذين اتخذوا من الكتابة في الأدب والصحافة مطية للطعن في الإسلام، ونبي الإسلام، والتشكيك في هذا الدين، والله من ورائهم محيط.
ويمكن أن نستفيد من هذه المرحلة عموما بعض الأمور التي لها علاقة بالدعوة إلى الله منها:
أن الداعية إلى الله لا بد أن يتصف بأمرين مهمين:
أولهما: الصبر فقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنواع الإذاية، وأذيقوا ألوانا من العذاب، فلم يثنهم ذلك عن القيام بواجب الدعوة إلى الله، ولم يفت ذلك في عضد أيا منهم، بل صبروا وصابروا، حتى نصرهم الله نصرا عزيزا مؤزرا.
الثاني: الحلم فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس ففي هذه المرحلة الحرجة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم، جاءه ملك الجبال فقال له إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين_جبلان بمكة_ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا.
ومنها كذلك: أن أساليب أهل الباطل في الصد عن دعوة الحق كثيرة ومتنوعة، فالواجب أن تجابه دعوات الباطل التي لا حصر لها بدعوة الحق، ويجب على أهل الحق ألا يثنيهم ذلك عن القيام بواجب الدعوة إلى الله.
ومنها: أن مجالات الدعوة كثيرة ومتنوعة كالدعوة في الأسواق، واستغلال التجمعات البشرية، واستغلال موسم الحج، وغيرها من المجالات وهي كثيرة، شريطة أن تكون بالحكمة، والمجادلة بالتي هي أحسن.